بين عثمان وأبي ذر
السؤال: لماذا غضب سيدنا عثمان على الصحابي المشهور أبي ذَرٍّ الغفاري؟
وهل من الصحيح أنه نفاه، وكيف حدث هذا؟
الجواب:
كان الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري ـ رضي الله عنه وأرضاه ، وكرم بين الأتقياء مثواه ـ رجلاً زاهدًا مُتقشفًا، يخلص العمل لله وحده، ويرغب عن الدنيا وزينتها، وكان يؤمن بأن المال كلُّه لله، وأن الفضل كله بيد الله، وأن أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ يجب أن تعيش متكافلة متضامنة متساوية.
ولمَّا رأى ـ رضوان الله عليه ـ أن الدنيا قد أقبلت بخيراتها على بعض الناس، وأن هؤلاء بدؤوا يجمعون الأموال، ويحتفظون بها متقصدين أو مكاثرين، خاف عواقب ذلك، وخشى نتائج الإفراط فيه، والتعلُّق به، والإصرار عليه، فأخذ يُحارب كَنْزَ المال في شدة وصرامة، وجعل يطوف في الأحياء والمجامع مُحذرًا ومذكرًا، وساخرًا بالكانزين، ومهددًا لهم، وكان يُردد قوله تعالى: (والذينَ يكنِزونَ الذهبَ والفِضَّةَ ولا يُنفقونها في سبيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بعذابٍ أليمٍ. يومَ يُحمى عليها في نارِ جهنَّمَ فتُكوى بها جِباهُهُمْ وجُنوبُهمْ وظهورهمْ هذا ما كَنزتمْ لأنفسكمْ فذُوقوا ما كنتمْ تكنزونَ). (التوبة: 34 ـ 35).
وكان الخليفة يومئذ هو عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وكان رجلاً مسالمًا هادئًا، فتراءى له أن دعوة أبي ذر الاشتراكية القوية ستُسبِّبُ له متاعب ومشاغل.
وفي الوقت نفسه حرضَّه معاوية على نَفْيِ أبي ذر فاستجاب عثمان لذلك، وقرر نفي أبي ذر إلى قرية "الربذة" وهي بلدة قريبة من المدينة المنورة، وأصدر عثمان قرارًا بألا يخرج أحد لتوديع أبي ذر، أو السلام عليه أو مُحادثته، وكلَّف مروان بن الحكم بأن يصحب أبا ذر، ليمنع الناس عن الاختلاط به أو القرب منه، وخاف الناس فابتعدوا، وخرج أبو ذر مع حارسه مروان، وهنا تَبعه عليٌّ بن أبي طالب وأخوه عقيل وابناه الحسن والحسين وعمار بن ياسر، ودنا الحسن من أبي ذرٍّ يكلمه، فاعترضه مروان قائلاً: إيهًا يا حسن، ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإنْ كنت لا تعلم فاعلمْ ذلك.
فأقبل عليٌّ عندما سمع ذلك، وضرب دابَّة مروان بالسوْط وقال: "تنح لَحَاكَ الله إلى النار". فرجع مروان مُغضبًا إلى عثمان، وأخبره الخبر، فتأثَّر عثمان من عليٍّ لذلك.
ومن رائع ما يُروى هنا أن الإمام عليًّا حينما همَّ بمفارقة أبي ذر حين نفْيهِ، وَعَظَهُ عِظَةً بليغة خالدة، قال فيها:
" يا أبا ذرٍّ، إنك غضبتَ لله فارجُ مَن غضبتَ له، إن القوم خافوك على دُنياهم وخِفتهم على دِينك، فاتركْ في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عمَّا منعوك، وستعلم أن الرابح غدًا والأكثر حُسَّدًا، ولو أن السموات والأرض كانتَا على عبدٍ رتَقًا ثم اتَّقَى اللهَ لجعل الله له منهما مخرجًا، لا يُؤنسنك إلا الحق، ولا يُوحشنَّك إلا الباطل، فلو قَلَيْتَ دُنياهم لأحبوك، ولو قَرضْتَ منها لأمِنُوك " رضوان الله على الجميع.
والله تبارك وتعالى أعلم.