حُكم النِّقاب
س: تقول امرأة: زوجي يأمرني بلبْس النقاب ويَزعم أن لُبْسَه فرضٌ على المرأة، وأنا امرأة مُوظفة، وعملي يَقتضي أن أكون مَكشوفة الوجه، وإذا سَترتُ وجهي أشعر باخْتناق وأجدُ حرَجًا شديدًا من زملائي وزميلاتي، ويُخيَّلُ إليَّ وأنا أمشي في الطريق كأن الناس جميعًا ينظرون إليَّ باحتقار، هكذا يُخيَّلُ إليَّ فعلاً، وأنا لا أدري على وجه التحديد هل اتِّخاذ النقاب فرضٌ أم سُنة أم هو من الأمور المُباحة التي تُخيَّر فيها المرأةُ حسب وَضْعها وحالها؟ أرجو أن تُفيدونا عن الحكم الصحيح في هذه المسألة بالأسلوب الذي يَفهمه عامَّة الناس ولكم مِن الله عظيم الثواب.
جـ: لقد كثُر السؤال عن حُكم النقاب وكثُرتْ أقوال العلماء فيه، والجواب عن هذا السؤال يتلخص فيما يأتي:
1 ـ اتَّفقَ الفقهاء جميعًا على وُجوب تغطية المرأةِ وجهَها وكفيها إنْ كانت جميلةً فاتنةً منعًا من الفتْنة ووُقوع المفسدة، ودفْع المفاسد واجب من أعظم الواجبات كما يقول علماء الأصول.
2 ـ واتَّفق الفقهاء أيضًا على أن المرأة العَجوز التي لا يَرغب في نِكاحها الرجال غالبًا يَجوز لها أن تَكشف وجهها ونصف ذَراعَيْها، بل ويجوز لها أن تكشف رأسها أيضًا، ولكن الستر أولَى وأفضلُ؛ لأنه دليلٌ على العِفَّة والحياء. واستدلوا على ما ذهبوا إليه بقوله تعالى في (سورة النور: 60):
(والقواعِدُ مِن النساءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحًا فليسَ عليهنَّ جُناحٌ أن يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غيرَ مُتبرِّجاتٍ بزِينةٍ وأنْ يَستعفِفْنَ خيرٌ لهنَّ واللهُ سميعٌ عليمٌ)
والقواعد هنَّ اللاتي أقعَدَهنَّ السِّنُّ عن العمل وعن طلَب النكاح ومُمارسة حقوقهنَّ الزوجية، فقد أباح الله لهنَّ أن يَكشفْنَ عن وُجوههنَّ ورُؤوسهنَّ وأقدامهنَّ بشرط ألاَّ يَقصدنَ من ذلك إبداءَ الزينة والتبرُّج، ورغَّبَهنَّ في الاسْتعفاف ونفَّرَهنَّ من التبذُّل.
3 ـ واختلف الفقهاء في المرأة التي لا يُخشَى منها الفتنة؛ هل يجب عليها ستْرُ وَجهها أم لا؟ والخلاف بين الفقهاء في هذا الأمر يدور حول مفهوم قوله تعالى في سورة النور:
(ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)
وقوله تعالى في سورة الأحزاب:
(يا أيُّها النبيُّ قُلْ لأزواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ المُؤمنِينَ يُدْنِينَ عليهنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وكانَ اللهُ غَفورًا رَحيمًا).
وقد نقل الإمام الطبريُّ في تفسير آية النور ثلاثة أقوال:
الأول: أن ما ظهَرَ منها هو الثياب. وهو قول ابن مسعود.
الثاني: الظاهر من الزينة، كالكُحل والخاتم والسوارينِ والوجه.
الثالث: الوجهُ والكفَّانِ.
وهو الراجح عنده (انظر: "جامع البيان عن تأويل آيِ القرآن" 18/ 118 ـ 119).
ونقل القرطبيُّ ما نقله الطبريُّ ورجَّح جوازَ كَشْفِ وجه المرأة التي لا يُخشَى منها الفتْنة؛
لأن الغالب من الوجه والكفينِ ظُهورهما عادةً وعبادةً في الصلاة والحج، واستدلَّ على ذلك أيضًا بما رواه أبو داود عن عائشةَ،
رضي الله عنها، أن أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، دخلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليها ثِيابٌ رِقاق فأعرَضَ عنها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وقال لها: "يا أسماء إنَّ المرأة إذا بلَغَتِ المَحيضَ لم يَصحَّ أن يُرَى منها إلا هذا" وأشار إلى وجهه وكَفَّيْهِ.
قال القرطبيُّ بعد أن ساق هذا الحديث: فهذا أقوَى من جانب الاحتياط، ولمُراعاة فساد الناس، فلا تُبدي
زِينتها إلا ما ظهر مِن وَجهها وكفَّيْها، والله الموفق اهـ (انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيّ 12 / 229) والقرطبيُّ من كبار فُقهاء المالكية.
وقد رجَّح الجصَّاص في كتابه "أحكام القرآن" ما رجَّحه الطبريُّ والقرطبيُّ من أن المراد بقوله: (إلا ما ظَهَرَ مِنها) الوجه والكفَّان، وهو مِن أئمة الحنفية (انظر: "أحكام القرآن" 5 / 172 ـ 173).
ووافق ابنُ العربيّ المالكيُّ الإمامَ الطبريَّ والقرطبيَّ والجَصَّاصَ على ما ذهبوا إليه، وذلك عند تفسير آية النور (انظر: "أحكام القرآن" لابن العربيّ 3 / 1356 ـ 1357).
وقال ابن كثير في تَفسيره بعد أن ذكَر طرَفًا من الأقوال السابقة: ويَحتمل أن ابن عباس ومَن تابَعَه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفَّينِ، وهذا هو المَشهور عند الجمهور ("تفسير القرآن العظيم" لابن كثير 6 / 47 ـ 48 طبعة الشعب).
وبعد هذا العرض الذي طالَ بعض الشيء أقول: يُستحَبُّ أن تُغطيَ المرأة نصف وجهها من أعلى وجزءًا كبير من خدَّيْها، وتتركَ فمَها وأنفَها وعيْنَيها من غير تَغطية، وبذلك يزول الإشكال ويَرتفع الحرَج، وهو الأمر الذي يَنبغي أن يُعوَّل عليه في الفتوى، وبهذا أيضًا نكون قد أنصفنا جميع الأطراف وقارَبنا الصواب وأغلَقنا باب الخلاف. والله وليُّ التوفيق.
الجمعة ديسمبر 05, 2008 6:27 am
