المرأة باعتبارها بنتاً
كان العرب في الجاهلية يتشاتمون بميلاد البنات , ويضيقون به , حتى قال أحد الآباء - وقد بشر بأن زوجه ولدت أنثى - : « والله ما هي بنعم الولد , نصرها بكاء, وبرها سرقة »!
يريد أنها لا تستطيع أن تنصر أباها وأهلها إلا بالصراخ والبكاء لا بالقتال , ولا أن تبرهم إلا بأن تأخذ من مال زوجها لأهلها .
وكانت التقاليد المتوارثة عندهم تبيح للأب أن يئد ابنته - يدفنها حية - خشية من فقر قد يقع , أو من عار قد تجلبه حين تكبر على قومها .
وفي ذلك يقول القرآن منكراً عليهم ومقرعاً لهم
: ( وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت ) .
ويصف حال الآباء عند ولادة البنات
: ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به , أيمسكه على هون أم يدسه في التراب , ألا ساء ما يحكمون ) .
وكانت بعض الشرائع القديمة تعطي الأب الحق في بيع ابنته إذا شاء , وبعضها الآخر - كشريعة حمورابي - تجيز له أن يسلمها إلى رجل آخر ليقتلها أو يملكها إذا قتل الأب ابنه الرجل الآخر .
جاء الإسلام فاعتبر البنت - كالابن - هبة من الله ونعمة - يهبها لمن يشاء من عباده
: ( يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً , ويجعل من يشاء عقيما , إنه عليم قدير ) .
وبين القرآن في قصصه أن بعض البنات قد تكون أعظم أثراً وأخلد ذكراً , من كثير من الأبناء الذكور , كما في قصة مريم ابنة عمران التي اصطفاها الله وطهرها واصطفاها على نساء العالمين , وقد كانت أمها عندما حملت بها تتمنى أن تكون ذكراً يخدم الهيكل , ويكون من الصالحين
. (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني , انك أنت السميع العليم * فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى , وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً …)
وحمل القرآن - حملة شعواء - على أولئك القساة الذين يقتلون أولادهم - إناثاً كانوا أو ذكوراً - فقال تعالى : ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم )
وقال . « ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق , نحن نرزقهم وإياكم , إن قتلهم كان خطئاً كبيراً ) .
وجعل رسول الإسلام الجنة جزاء كل أب يحسن صحبة بناته , ويصبر على تربيتهن وحسن تأديبهن , ورعاية حق الله فيهن , حتى يبلغن أو يموت عنهن , وجعل منزلته بجواره - صلى الله عليه وسلم - في دار النعيم المقيم .
روى مسلم عن أنس عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « من عال جاريتين حتى تبلغا , جاء يوم القيامة أنا وهو ….. وضم أصابعه » , ورواه الترمذي بلفظ : « من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين … » , وأشار بإصبعه السبابة والتي تليها .
وروى ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم « أنه قال : « ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه - أو صحبهما - إلا أدخلتاه الجنة » .
ونصت بعض الأحاديث على أن هذا الجزاء - دخول الجنة - للأخ الذي يعول أخواته أو أختيه أيضاً .
كما نص بعض آخر على أن هذه المكافآت الإلهية , لمن أحسن إلى جنس البنات ولو كانت واحدة .
ففي حديث أبى هريرة : « من كان له ثلاث بنات , فصبر على لأوائهن وضرائهن وسرائهن, أدخله الله الجنة برحمته إياهن » . فقال رجل : واثنتان يا رسول الله ؟ قال : « واثنتان » . قال رجل : يا رسول الله , وواحدة ؟ قال : « وواحدة » .
وروى ابن عباس مرفوعاً « من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها , ولم يؤثر ولده - يعني الذكور - عليها , أدخله الله الجنة » .
وفى حديث عائشة الذي رواه الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من ابتلى من هذه البنات بشيء , فأحسن إليهن كن له ستراً من النار » .
وبهذه النصوص الصحيحة الصريحة , والبشارات المكررة المؤكدة , لم تعد ولادة البنت عبئا يخاف منه , ولا طالع نحس يتطير به , بل نعمة تشكر , ورحمة ترجى وتطلب , لما وراءها من فضل الله تعالى , وجزيل مثوبته .
وبهذا أبطل الإسلام عادة الوأد إلى الأبد , وأصبح للبنت في قلب أبيها مكان عميق , يتمثل في قول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنته فاطمة : « فاطمة بضعة مني , يريبني ما رابها » .
ونلمس أثر ذلك في الأدب الإسلامي في مثل قول الشاعر :
لـولا بنيـات كزغب القطا رددن من بعـض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض
وإنمـا أولادنـا بيننـا أكبادنـا تمشــي على الأرض !
إن هـبت الريح على بعضهم امتنعت عـيني عن الغمض
وأما سلطان الأب على ابنته فلا يتجاوز حدود التأديب والرعاية والتهذيب الديني والخلقي , شأنها شأن إخوانها الذكور , فيأمرها بالصلاة إذا بلغت سبع سنين , ويضربها عليها إذا بلغت عشراً , ويفرق حينئذ بينها وبين إخوتها في المضجع , ويلزمها أدب الإسلام في اللباس والزينة والخروج والكلام .
ونفقته عليها واجبة ديناً وقضاءً حتى تتزوج .
وليس له سلطة بيعها أو تمليكها لرجل أخر بحال من الأحوال , فقد أبطل الإسلام بيع الحر - ذكراً كان أو أنثى - بكل وجه من الوجوه .
ولو أن رجلاً حراً اشترى أو ملك ابنة له كانت رقيقة عند غيره , فإنها تعتق عليه بمجرد تملكها , شاء أم أبى , بحكم قانون الإسلام .
وإذا كان للبنت مال خاص بها , فليس للأب إلا حسن القيام عليه بالمعروف . . ولا يجوز له أن يزوجها لرجل آخر , على أن يزوجه الأخر ابنته , على طريقة التبادل , وهو المسمى في الفقه بـ « نكاح الشغار » وذلك لخلو الزواج من المهر الذي هو حق البنت لا حق أبيها .
وليس للأب حق تزويج ابنته البالغة ممن تكرهه ولا ترضاه . وعليه أن يأخذ رأيها فيمن تتزوجه : أتقبله أم ترفضه . فإذا كانت ثيبا فلا بد أن تعلن موافقتها بصريح العبارة , وان كانت بكراً يغلبها حياء العذراء اكتفى بسكوتها , فالسكوت علامة الرضا , فإن قالت : لا . . فليس له سلطة إجبارها على الزواج بمن لا تريد .
روى الجماعة عن أبى هريرة مرفوعا :« لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن » . قالوا : يا رسول الله , وكيف إذنها ؟ قال : « أن تسكت » .
وروى الشيخان عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « البكر تستأذن . قلت : إن البكر تستأذن وتستحي ! قال : « إذنها صماتها » , ولهذا قال العلماء : ينبغي إعلام البكر بأن سكوتها إذن .
وعن خنساء بنت خدام الأنصارية : « أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك , فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها » .
وعن ابن عباس : أن جارية بكراً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة , فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا دليل على أن الأب لا يتميز عن غيره في وجوب استئذان البكر , وضرورة الحصول على موافقتها . وفى صحيح مسلم وغيره : « والبكر يستأمرها أبوها » أي يطلب أمرها وإذنها .
وعن عائشة : أن فتاة دخلت عليها , فقالت : إن أبي زوجني من ابن أخيه , ليرفع بي خسيسته , وأنا كارهة . قالت : اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم , فأخبرته , فأرسل إلى أبيها , فدعاه , فجعل الأمر إليها . فقالت : يا رسول الله : قد أجزت ما صنع أبي , ولكن أردت أن أعلم : أللنساء من الأمر شيء » ؟ .
وظاهر الأحاديث يدل على أن استئذان البكر والثيب شرط في صحة العقد , فإن زوج الأب أو الولي الثيب بغير إذنها فالعقد باطل مردود , كما في قصة خنساء بنت خدام .. وفي البكر : هي صاحبة الخيار إن شاءت أجازت , وان شاءت أبت , فيبطل العقد كما في قصة الجارية .
ومن جميل ما جاء به الإسلام : أنه أمر باستشارة الأم في زواج ابنتها , حتى يتم الزواج برضا الأطراف المعنية كلها . فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « آمروا النساء في بناتهن » .
وإذا كان الأب لا يحق له تزويج ابنته ممن لا ترضاه . كان من حقه عليها ألا تزوج نفسها إلا بإذنه لحديث : « لا نكاح إلا بولي » .
ورأى أبو حنيفة وأصحابه أن من حق الفتاة أن تزوج نفسها , ولو بغير إذن أبيها ووليها , بشرط أن يكون الزوج كفئاً لها . ولم يثبت عندهم الحديث المذكور .
والأولى أن يتم الزواج بموافقة الأب والأم والابنة . حتى لا يكون هناك مجال للقيل والقال , والخصومة والشحناء , وقد شرع الله الزواج مجلبة للمودة والرحمة .
والمطلوب من الأب أن يتخير لابنته الرجل الصالح الذي يسعدها ويسعد بها , وأن يكون همه الخلق والدين , لا المادة والطين , وألا يعوق زواجها إذا حضر كفؤها . وفى الحديث : « إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ». وبهذا علم الإسلام الأب أن ابنته « إنسان » قبل كل شيء , فهي تطلب إنساناً مثلها , وليست « سلعة » تعرض وتعطى لمن يدفع نقوداً أكثر , كما هو شأن كثير من الآباء الجاهلين والطامعين إلى اليوم . وفى الحديث : « أعظم النكاح بركة أيسره مئونة » .