وصايا ذي النون
السؤال: طالعت عبارة تشير إلى وصايا ذي النون المصري، فمن هو ذو النون المصري؟ وما هي تلك الوصايا المشار إليها؟
الجواب:
ذو النون المصري علم من أعلام الصوفية، وقد عاش في القرن الثالث الهجري، وهو من أهل أخميم في صعيد مصر، وقد تُوُفِّي في الجيزة سنة سِتٍّ وأربعين ومائتين، أو سنة خمس. أو سنة ثمان، كما ذكر ذلك الاختلاف ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان". وكُنيته أبو الفيض واسمه ثوبان ابن إبراهيم، وكان أبوه نوبيًّا، وكان ذو النون نحيلاً تعلوه حُمْرة، وكان في أول أمره مشتغلاً بالعلم، ثم غلَب عليه التصوف، وأنكر الناس عليه هذا، فاتَّهموه بالزندقة، وشكاه بعضهم إلى الخليفة المتوكل في بغداد، فأحضره مقيدًا بالسلاسل والأغلال، ومشى خلفه طائفة تريد أن تشهد عليه زورًا؛ ولكن ذا النون قال للمتوكل ما أقنعه، ففكَّ وثاقه، وخيَّب آمال المُفْترين، ولقد قال الرضي: سمِعْت ذا النون وفي يده الغُل، وفي رجله القيد، وهو يساق إلى المطبق (السجن تحت الأرض) والناس يبكون حوله، وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى ومن عطاياه، وكل فعاله عذب حسَن طيِّب، ثم أنشد [من الخفيف]:
لك من قلبي المكان المَصونُ كلُّ لومٍ عليَّ فيك يَهونُ
لك عهد بأن أكون قتيلاً فيك، والصبر عنك ما لا يكونُ
وكان ذو النون يَهيج حينما يسمع الغناء والألحان، وربما سقط على وجهه من شدة التأثر. ولذي النون كلام في التصوف والتهذيب منه روائع. فمن ذلك قوله: "إياك أن تكون للمعرفة مدعيًا، أو بالزهد محترفًا، أو بالعبادة متعلقًا، وفِرَّ مِن كل شيء إلى ربِّك " وقوله: "لَحَنَّا في العمل، وأعربْنا في الكلام، فكيف نفلح".
وقد نُسبَتْ إلى ذي النون كراماتٌ كثيرة، أثناء حياته وعند دفنه، والله أعلم. بحقيقة الأمر فيها. وأما الوصايا المسؤول عنها، فهي النصائح التي كان ذو النون المصري يوجهها إلى سائليه وطلابه ورواد حلقته، وهذه الوصايا كثيرة منبَثَّة في التراجم التي كتبها السابقون عن ذي النون، ومن أمثلة هذه الوصايا قوله:
"ليس بذي لُبٍّ من كاسَ (عَقِل) في أمر دنياه، وحمُق في أمر آخرته، ولا من سفِه في موطن حلمه، وتكبَّر في مواطن تواضعه، ولا من فقد منه الهوى في مواطن طمعه، ولا من غضب من حق إن قيل له، ولا من زهد فيما يرغب العاقل في مثله، ولا من رغِب فيما يزهد الأكياس في مثله، ولا من استقل الكثير من خالقه عز وجل، واستكثر قليل الشكر من نفسه، ولا من طلب الإنصاف من غيره لنفسه، ولم يُنصف من نفسه غيره، ولا من نسي الله في مواطن طاعته، وذكر الله في مواطن الحاجة إليه، ولا من جمع العلم فتَرِفَ به ثم آثر عليه هواه عند متعلمه، ولا من قلَّ منه الحياء من الله على جميل ستره" إلخ.
ومن وصاياه أيضا قوله: "من نظر في عيوب الناس عمي عن عيوب نفسه، ومن اعتنى بالفردوس والنار شغل عن القيل والقال، ومن هرب من الناس سلم من شرهم، ومن شكر المزيد زيد له." ومن نصيحته لأخ له أدركته عِلة: "سألتَني أن أدعو الله لك أن يزيل عنك العلة، وأعلم. يا أخي أن العلة مجازاة يأْنَس بها أهل الصفاء والهِمم والضياء، من لم يُعِدَّ البلاء نعمة فليس من الحكماء، ومن لم يأمن الشفيق على نفسه فقد أمن أهل التهم على أمره، فليكن معك يا أخي حياء يمنعك عن الشكوى، والسلام".
ووصاياه غالبًا من هذا النوع المذكر بالله، الداعي إلى التعلق بأسبابه واللجوء إلى حماه.
والله تبارك وتعالى أعلم.