لا تظلموا الغانيات .. !
السؤال: يُطْلِق كثير من الناس كلمة "غانية" على المرأة اللعوب المُتحلِّلة، فهل هذا الإطلاق صحيح؟
الجواب:
اعتاد بعض الكاتبين ـ وخاصة كتاب القصة ـ أن يُطلقوا كلمة " الغانية " على المرأة اللاهية اللعوب، التي تَفْتَنُّ في سحرها وسهرها، وتَبْرَعُ في اجتذابها وألاعيبها، وهذا استعمال لغوي خاطئ، وظلم لكلمة " الغانية " التي عرفتها اللغة العربية دالة على معنى كريم ومدلول قويم. وحسبنا أن نسوق لذلك طائفة من النصوص اللغوية في اختصار وإيجاز، لنُدَلِّلَ على الظلم الذي نال كلمة " غانية " فنقلها من مقامها المقبول إلى مدلولها الخاطئ المرذول.
جاء في القاموس المحيط: " والغانية المرأة التي تُطْلَب ولا تَطْلُب، أو الغنية بحُسْنها عن الزينة، أو التي غنيت ببيت أبويها، ولم يقع عليها سباء، أو الشابة العفيفة، ذات زوج أم لا، والجمع غوان".
وفي مفردات القرآن للأصفهاني: "والغانية المُستغنية بزوجها عن الزينة، وقِيلَ المُسْتغنية بحسنها عن التزين".
وكلمة "الغانية" مشتقة من مادة "غنى" وهي مادة تدل في استعمالاتها اللغوية المختلفة على الاستغناء والاكتفاء وعدم الاحتياج، ولذلك جاء في "أساس البلاغة" للزمخشري: "لي عن هذا غُنية، وأنا عنه غني".
قال (من الطويل ):
كِلانا غني عن أخيه حياتَه ونحن إذا مِْتَنا أشَدُّ تَغَانِيا
وأغنى فلان في الحرب غناءً حسنًا، وأغنى عني فلان غناءً، أي كفى في الدفع، وتقول: "لأغنينَّ عنك مغناه، ولأكفينَّك ما كفاه". وفي كتاب "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي: "قال أهل اللغة: الغني ـ مقصور مكسور الأول: هو اليسار، يُقال منه: غَنِيَ الرجل فهو غَني، وتغنى الرجل واستغنى بمعنى واحد، وأغناه الله تعالى، وتغانوا: أي استغنى بعضهم عن بعض .. وغنيت المرأة بزوجها غنيانًا أي استغنت .. قال الشاعر: ( من الخفيف ) :
كُتِبَ القتلُ والقتال علينا وعلى الغانيات جَرُّ الذيول
أراد بالغانيات النساء، واختلف أهل اللغة في الغانية، فقيل هي الزوجة؛ لأنها غنيت بزوجها عن غيره، وأنشد ابن الأعرابي ثم الجوهري في صحاحه على هذا قولَ جميل صاحب بثينة (من الطويل):
أُحِبُّ الأيامَى إذ بُثَينة أَيِّمٌ وأحببت لما أن غنيت الغوانيا
أراد بالأيامى اللاتي لا أزواج لهن، وبالغواني المزوجات .. وقيل: الغانية الشابة الجميلة الناعمة، وقيل: هي البارعة في الجمال التي أغناها جمالها عن الزينة".
وفي كتاب النهاية لابن الأثير: "من أسماء الله تعالى الغني، وهو الذي لا يحتاج إلى أحد في شيء، وكل أحد يحتاج إليه، وهذا هو الغنى المُطلق، ولا يُشارك الله فيه غيره .. ومن أسمائه المغني، وهو الذي يُغني مَن يشاء من عباده".
وَقَدْ تَكَرَّرَتْ مادة "غنى" في القرآن المجيد عشرات المرات بصور مختلفة. ولكنها دلَّت في هذه الصور أيضًا على الاستغناء والاستكفاء. يقول التنزيل في سورة الأعراف: (قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (الآية 48) . وفي سورة الحجر: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الآية 84) . وفي سورة الحاقة: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) (الآيتان 28 و 29). وفي سورة النجم: (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى) (الآية 48) . وفي سورة الضحى: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (الآية
. وفي سورة النساء: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) (الآية 130). وفي سورة التوبة: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (الآية 28). وفي سورة النمل: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (الآية 40).
من هذه النصوص وأمثالها نفهم أن كلمة "الغانية" في لغة العرب لا تُفيد معنى اللهو والتحلُّل، والانغمار في اللذات واصطناع أسباب الهوى، كما يظن البعض ويستعمل. ولكنها تفيد معنى الاستغناء والاكتفاء، وهي في أغلب استعمالاتها تُفيد الاستغناء عن الحرام المرذول، وتكتفي بالحلال الجميل.
فيا أيها الكتاب ... سمُّوا المرأة اللاهية ما شئتم من أسمائها فهي كثيرة شهيرة. ولكن لا تسمُّوها "غانية"، فإنها قد استغنت حين تبذلت عن الاستغناء. واجعلوا كلمة "الغانية" لصاحبتها تلك التي غنيت وعزت على باطل الأهواء .. وقد يتعلل متعلل بتأويل بعيدٍ أو قريب . ولكنها ليست طريقة الحكماء!!
والله ـ تبارك وتعالى ـ أعلم.
الأربعاء ديسمبر 10, 2008 4:00 am
